استعادة قوة الاقتصاد الأمريكي: تحديات خفض الاستهلاك وسد العجز التجاري
السبت 21 يونيو 2025 - 07:22 ص

إعادة توازن الاقتصاد العالمي هي القضية المهمة للرئيس الأميركي دونالد ترامب. يرى الرئيس أن الصين يجب أن تُنتج أقل وتستهلك أكثر، بينما ينبغي لأميركا أن تُنتج أكثر بتحفيز الصناعة. هناك خطوة منطقية إضافية في هذه الخطة: يجب على أميركا أيضاً أن تقلل من استهلاكها. هذا التقشف أمر لا مفر منه وتعترف به الإدارة الأميركية نفسها.
يدعو وزير الخزانة، سكوت بيسنت، إلى "استهلاك أقل"، وبتعبير أكثر تهذيباً، يشير ترامب إلى أن "حربه التجارية قد تؤدي إلى أن يمتلك الأطفال دميتين بدلاً من 30". ويقول نائب الرئيس، جي. دي. فانس: "مليون محمصة خبز رخيصة ومقلدة لا تعادل قيمة وظيفة تصنيع أمريكية واحدة".
مع تزايد الاعتقاد بأن أميركا تستهلك بشكل مفرط لعقود، ينتقد اليساريون ثقافة الاستهلاك الأمريكية. في العقد الأول من القرن الـ21، وقبل الأزمة المالية العالمية، وصف بعض الاقتصاديين الأميركيين بأنهم شعب يُفرط في استخدام أسعار الفائدة المنخفضة طويلة الأجل.
في عام 2010، تعاون الجمهوري التكنوقراطي، غلين هوبارد، مع ديمقراطي مغمور يدعى بيتر نافارو للقول بأن "زيادة معدل الادخار الأميركي يجب أن تكون جزءاً من سياستنا التجارية الاقتصادية الوطنية الشاملة". وقد غيّر نافارو انتماءه الحزبي لاحقاً، ويعتبر حالياً خبير في التجارة لدى ترامب.
العجز التجاري
ولمعرفة كيفية ارتباط الاستهلاك المفرط والتجارة، انظر إلى ما يحدث عندما يستهلك بلد ما، ما يتجاوز إمكاناته. إنه يضطر إلى الاقتراض من الخارج. هذه التدفقات المالية هي الوجه الآخر للعجز التجاري الذي يكرهه ترامب. يشبه الأمر وصول حاويات شحن إلى أميركا، وتفريغ البضائع، ثم إعادتها محملة بسندات الخزانة أو أسهم شركات مؤشر "ستاندرد آند بورز 500".
يريد ترامب سد العجز التجاري، ما يعني ضرورة تباطؤ التدفقات المالية أيضاً، لكنه يريد في الوقت نفسه أن تتمتع أميركا بطفرة استثمارية. الطريقة الوحيدة لتحقيق التوازن هي أن تزيد أميركا رأسمالها من خلال الادخار، وبمعنى آخر، يجب عليها خفض استهلاكها.
من المنطقي السعي إلى إعادة التوازن هذه، حيث إن إجمالي المدخرات المحلية الأميركية يبلغ نحو 17% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بمتوسط 23% في الدول ذات الدخل المرتفع. وتستثمر أميركا نحو 22% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يتماشى تقريباً مع متوسط دول العالم الغني.
الاستثمار الدولي
لقد أدخل الاعتماد على تدفقات رأس المال الصافية أميركا في التزامات مالية ثقيلة تجاه الأجانب. وانخفض الفرق بين الأصول التي يمتلكها الأميركيون في الخارج وتلك التي يملكها الأجانب في أميركا إلى 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا هو نوع "صافي وضع الاستثمار الدولي" الذي من شأنه أن يكون مخيفاً في أي بلد آخر تقريباً.
لسنوات، كان بإمكان أميركا أن تستمد العزاء من صحة بيان دخلها. وحتى مع تدهور وضع الاستثمار الدولي، حققت البلاد مكاسب من أصولها الخارجية أكثر مما دفعته للمستثمرين الأجانب. ويمتلك الأجانب الكثير من الديون منخفضة العائد، بما في ذلك سندات الخزانة، بينما يمتلك الأميركيون المزيد من الأسهم والاستثمارات الأجنبية المباشرة، ذات العوائد الأعلى.
لكن مع تراجع وضع الاستثمار الدولي الصافي إلى المنطقة الحمراء، تبدد هذا الاسترخاء. في الربع الثالث من عام 2024، دفعت أميركا لمالكي أصولها أكثر مما جنته من الاستثمارات الأجنبية لأول مرة هذا القرن، ويعزى ذلك جزئياً إلى ارتفاع أسعار الفائدة.
أزمات مفاجئة
وهذا هو جوهر الحقيقة في ادعاء ترامب أن العجز التجاري ينقل الثروة إلى الخارج. في الاقتصاد التقليدي، يؤدي العجز الكبير المستمر في الحساب الجاري إلى تقليص ثراء الدولة تدريجياً، تماماً كما تجد الأسرة المبذِّرة نفسها في نهاية المطاف أفقر من جارتها التي لا تُنفق إلا القليل.
وفي الواقع القاسي للاقتصاد العالمي، يمكن أن يؤدي العجز المفرط في الحساب الجاري إلى أزمات عملة مفاجئة، حيث يفقد المستثمرون الأجانب ثقتهم بقدرة الدولة على سداد ديونها. إذا استمر تعطش أميركا للاستهلاك على هذا النحو، فإلى متى سيستمر هذا الوضع؟
في ثمانينات القرن الماضي، ومع انخفاض مؤشر أسعار المنتجين غير الأساسيين، وتحوله مع مرور الوقت إلى سلبي، تساءل الاقتصاديون عن المدة التي يمكن أن يستمر فيها هذا الوضع. واتضح أنه سيستمر لفترة طويلة جداً. ثم في أوائل العقد الأول من القرن الجاري، عندما ارتفع عجز الحساب الجاري الأميركي بشكل حاد، أشار الاقتصادي الأميركي بن برنانكي إلى "وفرة" في المدخرات الخارجية التي كانت تتدفق إلى أميركا.
التحوطات الطبيعية
وتستفيد البلاد أيضاً من بعض التحوطات الطبيعية، فبسبب اقتراضها بعملتها المحلية، ومع انخفاض الدولار (كما حدث هذا العام)، يتحسن مؤشرها الوطني للاستثمار. ويحدث الشيء نفسه إذا انخفضت سوق الأسهم. في الواقع، فإن أحد أسباب سوء مؤشرها الوطني للاستثمار بشكل خاص في السنوات الأخيرة هو الارتفاع المذهل في "وول ستريت" الذي رفع قيمة الأصول الأميركية المملوكة للأجانب.
وفي الوقت نفسه، هناك أسباب للاعتقاد بأن الأمور قد تكون مختلفة الآن، وأن التحوطات قد لا تكون كافية لمنع المعاناة. لننظر إلى آراء الاقتصاديين خارج دائرة الرئيس. يُشبّه كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، موريس أوبستفيلد، الميزان التجاري لأي دولة برصيد الميزانية الأولية للحكومة.
من جهته، يصف بيتر هوبر، من "دويتشه بنك"، العجز التجاري الأميركي المستمر بأنه مرض مزمن، "كأنه نمل أبيض في الخشب". فيما يشير جوزيف غانيون، من معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، إلى أنه لم يسبق لأي اقتصاد متقدم أن حافظ على وضع سلبي من الالتزامات الأجنبية مثل أميركا.
أزمة الحساب الجاري
كيف ستبدو أزمة الحساب الجاري؟ إن رأس المال الأميركي المملوك للأجانب، والذي تبلغ قيمته 62 تريليون دولار، موزع على عشرات الملايين من الميزانيات العمومية المملوكة للشركات والأفراد. منها أدوات الدين التي لا يمكن تخفيض قيمتها بسهولة، كما هو الحال مع أسعار الأسهم أو قيم العقارات، إذ إن خمس هذا الدين صادران عن الحكومة.
غير أن فقدان الثقة بقدرة أميركا على تحقيق العوائد الحقيقية اللازمة للمستثمرين الأجانب قد يتسبب في انخفاض كبير في أسعار أصولها التي وصلت إلى مستويات مرتفعة للغاية. ستتعرض سندات البلاد وعقاراتها وأسهمها، وكذلك الدولار نفسه، لضغوط بيع شديدة. ضعف الدولار وانخفاض أسعار السندات والأسهم الأمريكية سيضطر الحكومة إلى إعادة التوازن.
ترامب يريد سد العجز التجاري، ما يعني ضرورة تباطؤ التدفقات المالية، لكنه يريد في الوقت نفسه أن تتمتع أميركا بطفرة استثمارية.
مواد متعلقة
المضافة حديثا