انسحاب أمريكا من دور القوة الكبرى يزعزع استقرار النظام العالمي
الثلاثاء 23 ديسمبر 2025 - 05:16 ص
إذا كان بإمكاننا تلخيص جوهر الاستراتيجية الأمنية الجديدة التي تبنتها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في عبارة واحدة، لكانت تتمثل في إعادة الولايات المتحدة إلى دور الدولة الإقليمية بعد عقود من لعب دور القوة العالمية.
تبدأ هذه الوثيقة بانتقاد واضح لمسار طويل من السياسات الخارجية الأميركية، التي تعاملت مع الولايات المتحدة كقوة مهيمنة على مستوى العالم، تسعى لحماية مصالحها في مختلف القارات.
تقدم الوثيقة بديلاً لهذا النهج، ينص على ضرورة إعادة الولايات المتحدة تعريف مصالحها بشكل أضيق وأكثر تحديداً.
تعترف الاستراتيجية بأهمية مصالح الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا، لكنها تؤكد أن المصلحة الأساسية تتركز في محيطها الجغرافي المباشر، في النصف الغربي من الكرة الأرضية.
تستند الوثيقة إلى مبدأ مونرو، الذي أعلنه الرئيس الأميركي السابق، جيمس مونرو، عام 1823، والذي حذر القوى الأوروبية من محاولات استعمارية جديدة في العالم الغربي.
كما تشير إلى نتيجة ترامب، التي تشبه إلى حد بعيد نتيجة روزفلت التي أعلنها ثيودور روزفلت لاحقاً.
ويبدو الطرح منطقياً، لكن واقع العالم يجعل تطبيقه متشابكاً بالمخاطر، فالولايات المتحدة اليوم هي أقوى دولة في العالم مع نموها خلال العقود الثلاثة الماضية.
قوة الولايات المتحدة الاقتصادية والتقنية تجعل من المستحيل التركيز فقط على محيطها الإقليمي دون تداعيات سلبية.
وخاصة في ظل ازدياد الأزمات والصراعات العالمية، يمثل الانخراط في الشؤون العالمية ضرورة لا يمكن تجاهلها.
لفهم السياق، يجب الرجوع إلى السياق التاريخي الذي ظهرت فيه عقيدة مونرو، حيث كانت الولايات المتحدة دولة صغيرة نسبياً تضم 24 ولاية ويبلغ عدد سكانها نحو 10 ملايين نسمة.
كانت تعتمد بشكل أساسي على الزراعة وكانت قوتها العسكرية محدودة جداً ولم تكن ضمن أكبر 15 دولة عسكرية في العالم آنذاك.
اليوم، إذا حاولنا تطبيق منظور مونرو على الولايات المتحدة المعاصرة، نجد الأمر غير واقعي، حيث باتت أمريكا قوة عظمى ذات مصالح عالمية.
المصالح التجارية والاقتصادية الكبرى للولايات المتحدة تقع خارج نصف الكرة الغربي، في المحيط الأطلسي والهادئ.
وبلغ حجم التجارة الأمريكية مع دول أمريكا اللاتينية كافة باستثناء المكسيك نحو 450 مليار دولار في عام 2024.
بالمقابل، تجاوز حجم التجارة مع الاتحاد الأوروبي 1.5 تريليون دولار، وأكثر من 2 تريليون دولار مع آسيا.
اقتصاد كندا والمكسيك مترابطان إلى حد يجعلها أشبه باقتصاد واحد لأميركا الشمالية.
رأى الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان في إطار احتواء الحرب الباردة أن العالم يضم ستة مراكز رئيسة للقوة الاقتصادية.
الحفاظ على علاقات قوية مع مراكز الثقل الاقتصادي العالمي أساس استراتيجي لا يمكن تجاوزه.
الاستراتيجية الأمنية التي تبنتها إدارة ترامب تبدو وكأنها تربط مستقبل الولايات المتحدة بجزء هامشي من الاقتصاد العالمي.
وهنا تكمن المشكلة الأساسية في الوثيقة، حيث تعاني من غياب التماسك، مع تباين بين الأقسام المكتوبة من قبل أطراف مختلفة.
السياسة الخارجية للرئيس ترامب توصف بأنها براغماتية وواقعية، ولكنها بعيداً عن ذلك في الواقع.
السياسة الخارجية تعتمد على عبارات غامضة وغير واضحة المعنى، مع اشارات ضئيلة لاستعداد محدود للقيام بدور دولي.
ولا تختلف هذه الرؤية كثيراً عما كان يطرحه أنصار الانعزال في القرن الماضي حين دعوا للابتعاد عن الشؤون الأوروبية.
في تلك الفترات، تزايدت المشاعر المعادية للهجرة، واليوم تبدو استراتيجية الأمن القومي في عهد ترامب مهووسة بقضية الهجرة.
الوثيقة تعتبر الهجرة تهديداً مباشراً للأمن القومي وتزعم أنها أحد أكبر التحديات التي تواجه أميركا والغرب.
وفي جوهرها، تحذر من أن الهجرة قد تؤدي إلى محو الحضارة الغربية بالمعنى المطلق.
تشبه الأوضاع الدولية اليوم تلك الموجودة في عشرينات القرن الماضي، والانسحاب الأميركي من الدور العالمي يترك فراغات خطيرة.
ومثلما حدث في الماضي، فإن انسحاب الولايات المتحدة يمكن أن يؤدي إلى تداعيات خطيرة للأمن العالمي.
فقد كان انسحاب أميركا في الماضي أحد العوامل التي قادت إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
اليوم، الانسحاب والتركيز المفرط على الشؤون الداخلية يترك العالم بلا قيادة واضحة ويزيد من الاضطرابات.
الأمل يبقى في ألا يضطر العالم إلى تعلم هذا الدرس التاريخي القاسي مرة أخرى.
مواد متعلقة
المضافة حديثا